فصل: أَمَّا الْوُضُوءُ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (نسخة منقحة)



بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

.خُطْبَةُ الْكِتَابِ لِلْمُصَنِّفِ:

الْحَمْدُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْقَادِرِ الْقَوِيِّ الْقَاهِرِ الرَّحِيمِ الْغَافِرِ الْكَرِيمِ السَّاتِرِ ذِي السُّلْطَانِ الظَّاهِرِ، وَالْبُرْهَانِ الْبَاهِرِ، خَالِقِ كُلِّ شَيْءٍ، وَمَالِكِ كُلِّ مَيِّتٍ، وَحَيٍّ، خَلَقَ فَأَحْسَنَ، وَصَنَعَ فَأَتْقَنَ، وَقَدَرَ فَغَفَرَ، وَأَبْصَرَ فَسَتَرَ، وَكَرَمَ فَعَفَا، وَحَكَمَ فَأَخْفَى، عَمَّ فَضْلُهُ، وَإِحْسَانُهُ، وَتَمَّ حُجَّتُهُ، وَبُرْهَانُهُ، وَظَهَرَ أَمْرُهُ، وَسُلْطَانُهُ فَسُبْحَانَهُ مَا أَعْظَمَ شَأْنَهُ، وَالصَّلَاةُ، وَالسَّلَامُ عَلَى الْمَبْعُوثِ بَشِيرًا، وَنَذِيرًا، وَدَاعِيًا إلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا فَأَوْضَحَ الدَّلَالَةَ، وَأَزَاحَ الْجَهَالَةَ، وَفَلَّ السَّفَهَ، وَثَلَّ الشُّبَهَ: مُحَمَّدٍ سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ، وَإِمَامِ الْمُتَّقِينَ، وَعَلَى آلِهِ الْأَبْرَارِ، وَأَصْحَابِهِ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ.
(وَبَعْدُ) فَإِنَّهُ لَا عِلْمَ بَعْدَ الْعِلْمِ بِاَللَّهِ، وَصِفَاتِهِ أَشْرَفُ مِنْ عِلْمِ الْفِقْهِ، وَهُوَ الْمُسَمَّى بِعِلْمِ الْحَلَالِ، وَالْحَرَامِ، وَعِلْمِ الشَّرَائِعِ، وَالْأَحْكَامِ، لَهُ بَعَثَ الرُّسُلَ، وَأَنْزَلَ الْكُتُبَ إذْ لَا سَبِيلَ إلَى مَعْرِفَتِهِ بِالْعَقْلِ الْمَحْضِ دُونَ مَعُونَةِ السَّمْعِ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إلَّا أُولُوا الْأَلْبَابِ} وَقِيلَ: فِي بَعْضِ وُجُوهِ التَّأْوِيلِ هُوَ عِلْمُ الْفِقْهِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَا عُبِدَ اللَّهُ بِشَيْءٍ أَفْضَلَ مِنْ فِقْهٍ فِي دِينٍ، وَلَفَقِيهٌ وَاحِدٌ أَشَدُّ عَلَى الشَّيْطَانِ مِنْ أَلْفِ عَابِدٍ».
وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا قَدِمَ مِنْ الشَّامِ إلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ: مَا أَقْدَمَك قَالَ: قَدِمْت لِأَتَعَلَّمَ التَّشَهُّدَ فَبَكَى عُمَرُ حَتَّى ابْتَلَّتْ لِحْيَتُهُ ثُمَّ قَالَ: وَاَللَّهِ إنِّي لَأَرْجُو مِنْ اللَّهِ أَنْ لَا يُعَذِّبَك أَبَدًا.
وَالْأَخْبَارُ، وَالْآثَارُ فِي الْحَضِّ عَلَى هَذَا النَّوْعِ مِنْ الْعِلْمِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَى، وَقَدْ كَثُرَ تَصَانِيفُ مَشَايِخِنَا فِي هَذَا الْفَنِّ قَدِيمًا، وَحَدِيثًا، وَكُلُّهُمْ أَفَادُوا، وَأَجَادُوا غَيْرَ أَنَّهُمْ لَمْ يَصْرِفُوا الْعِنَايَةَ إلَى التَّرْتِيبِ فِي ذَلِكَ سِوَى أُسْتَاذِي وَارِثِ السُّنَّةِ، وَمُوَرِّثِهَا الشَّيْخِ الْإِمَامِ الزَّاهِدِ عَلَاءِ الدَّيْنِ رَئِيسِ أَهْلِ السُّنَّةِ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي أَحْمَدَ السَّمَرْقَنْدِيِّ- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- فَاقْتَدَيْت بِهِ فَاهْتَدَيْت إذْ الْغَرَضُ الْأَصْلِيُّ، وَالْمَقْصُودُ الْكُلِّيُّ مِنْ التَّصْنِيفِ فِي كُلِّ فَنٍّ مِنْ فُنُونِ الْعِلْمِ هُوَ تَيْسِيرُ سَبِيلِ الْوُصُولِ إلَى الْمَطْلُوبِ عَلَى الطَّالِبِينَ، وَتَقْرِيبُهُ إلَى أَفْهَامِ الْمُقْتَبِسِينَ، وَلَا يَلْتَئِمُ هَذَا الْمُرَادُ إلَّا بِتَرْتِيبٍ تَقْتَضِيهِ الصِّنَاعَةُ، وَتُوجِبُهُ الْحِكْمَةُ، وَهُوَ التَّصَفُّحُ عَنْ أَقْسَامِ الْمَسَائِلِ، وَفُصُولِهَا، وَتَخْرِيجِهَا عَلَى قَوَاعِدِهَا، وَأُصُولِهَا لِيَكُونَ أَسْرَعَ فَهْمًا، وَأَسْهَلَ ضَبْطًا، وَأَيْسَرَ حِفْظًا فَتَكْثُرُ الْفَائِدَةُ، وَتَتَوَفَّرُ الْعَائِدَةُ فَصَرَفْت الْعِنَايَةَ إلَى ذَلِكَ، وَجَمَعْت فِي كِتَابِي هَذَا جُمَلًا مِنْ الْفِقْهِ مُرَتَّبَةً بِالتَّرْتِيبِ الصِّنَاعِيِّ، وَالتَّأْلِيفِ الْحُكْمِيِّ الَّذِي تَرْتَضِيهِ أَرْبَابُ الصَّنْعَةِ، وَتَخْضَعُ لَهُ أَهْلَ الْحِكْمَةِ مَعَ إيرَادِ الدَّلَائِلِ الْجَلِيَّةِ، وَالنُّكَتِ الْقَوِيَّةِ بِعِبَارَاتٍ مُحْكَمَةِ الْمَبَانِي مُؤَيَّدَةِ الْمَعَانِي، وَسَمَّيْته (الْفِقْهَ عَلَى الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ) إذْ هِيَ صَنْعَةٌ بَدِيعَةٌ، وَتَرْتِيبٌ عَجِيبٌ، وَتَرْصِيفٌ غَرِيبٌ لِتَكُونَ التَّسْمِيَةُ مُوَافِقَةً لِلْمُسَمَّى، وَالصُّورَةُ مُطَابِقَةً لِلْمَعْنَى وَافَقَ شَنٌّ طَبَقَهُ وَافَقَهُ فَاعْتَنَقَهُ فَأَسْتَوْفِقُ اللَّهَ تَعَالَى لِإِتْمَامِ هَذَا الْكِتَابِ الَّذِي هُوَ غَايَةُ الْمُرَادِ، وَالزَّادِ لِلْمُرْتَادِ، وَمُنْتَهَى الطَّلَبِ، وَعَيْنُهُ تُشْفِي الْجَرَبَ، وَالْمَأْمُولُ مِنْ فَضْلِهِ، وَكَرَمِهِ أَنْ يَجْعَلَهُ وَارِثًا فِي الْغَابِرِينَ، وَلِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخَرِينَ، وَذِكْرًا فِي الدُّنْيَا، وَذُخْرًا فِي الْعُقْبَى، وَهُوَ خَيْرُ مَأْمُولٍ، وَأَكْرَمُ مَسْئُولٍ.

.كِتَابُ الطَّهَارَةِ:

الْكَلَامُ فِي هَذَا الْكِتَابِ فِي الْأَصْلِ، فِي مَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا، فِي تَفْسِيرِ الطَّهَارَةِ، وَالثَّانِي، فِي بَيَانِ أَنْوَاعِهَا.
(أَمَّا) تَفْسِيرُهَا:
فَالطَّهَارَةُ لُغَةً، وَشَرْعًا هِيَ النَّظَافَةُ، وَالتَّطْهِيرُ، وَالتَّنْظِيفُ، وَهُوَ إثْبَاتُ النَّظَافَةِ فِي الْمَحَلِّ، وَأَنَّهَا صِفَةٌ تَحْدُثُ سَاعَةً فَسَاعَةً، وَإِنَّمَا يَمْتَنِعُ حُدُوثُهَا بِوُجُودِ ضِدِّهَا، وَهُوَ الْقَذَرُ، فَإِذَا زَالَ الْقَذَرُ، وَامْتَنَعَ حُدُوثُهُ بِإِزَالَةِ الْعَيْنِ الْقَذِرَةِ، تَحْدُثُ النَّظَافَةُ، فَكَانَ زَوَالُ الْقَذَرِ مِنْ بَابِ زَوَالِ الْمَانِعِ مِنْ حُدُوثِ الطَّهَارَةِ، لَا أَنْ يَكُونَ طَهَارَةً، وَإِنَّمَا سُمِّيَ طَهَارَةً تَوَسُّعًا لِحُدُوثِ الطَّهَارَةِ عِنْدَ زَوَالِهِ.

.(فَصْلٌ): أَنْوَاعُ الطَّهَارَةِ:

وَأَمَّا بَيَانُ أَنْوَاعِهَا: فَالطَّهَارَةُ فِي الْأَصْلِ نَوْعَانِ: طَهَارَةٌ عَنْ الْحَدَثِ، وَتُسَمَّى طَهَارَةً حُكْمِيَّةً، وَطَهَارَةٌ عَنْ الْخَبَثِ، وَتُسَمَّى طَهَارَةً حَقِيقِيَّةً.

.أَمَّا الطَّهَارَةُ عَنْ الْحَدَثِ:

فَثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: الْوُضُوءُ، وَالْغُسْلُ، وَالتَّيَمُّمُ.

.أَمَّا الْوُضُوءُ:

فَالْكَلَامُ فِي الْوُضُوءِ فِي مَوَاضِعِ تَفْسِيرِهِ، وَفِي بَيَانِ أَرْكَانِهِ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ الْأَرْكَانِ، وَفِي بَيَانِ سُنَنِهِ، وَفِي بَيَانِ آدَابِهِ، وَفِي بَيَانِ مَا يَنْقُضُهُ.
أَمَّا الْأَوَّلُ: فَالْوُضُوءُ اسْمٌ لِلْغَسْلِ وَالْمَسْحِ، لِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمْ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أَمَرَ بِغَسْلِ الْأَعْضَاءِ الثَّلَاثَةِ، وَمَسْحِ الرَّأْسِ.
فَلَابُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ مَعْنَى الْغَسْلِ وَالْمَسْحِ فَالْغَسْلُ هُوَ إسَالَةُ الْمَائِعِ عَلَى الْمَحَلِّ، وَالْمَسْحُ هُوَ الْإِصَابَةُ، حَتَّى لَوْ غَسَلَ أَعْضَاءَ وُضُوئِهِ، وَلَمْ يُسِلْ الْمَاءَ، بِأَنْ اسْتَعْمَلَهُ مِثْلَ الدُّهْنِ، لَمْ يَجُزْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَجُوزُ وَعَلَى هَذَا قَالُوا: لَوْ تَوَضَّأَ بِالثَّلْجِ، وَلَمْ يَقْطُرْ مِنْهُ شَيْءٌ لَا يَجُوزُ، وَلَوْ قَطَرَ قَطْرَتَانِ، أَوْ ثَلَاثٌ، جَازَ لِوُجُودِ الْإِسَالَةِ، وَسُئِلَ الْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ عَنْ التَّوَضُّؤِ بِالثَّلْجِ، فَقَالَ: ذَلِكَ مَسْحٌ، وَلَيْسَ بِغَسْلٍ، فَإِنْ عَالَجَهُ حَتَّى يَسِيلَ يَجُوزُ وَعَنْ خَلَفِ بْنِ أَيُّوبَ أَنَّهُ قَالَ: يَنْبَغِي لِلْمُتَوَضِّئِ فِي الشِّتَاءِ أَنْ يَبُلَّ أَعْضَاءَهُ شِبْهَ الدُّهْنِ، ثُمَّ يُسِيلَ الْمَاءَ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ الْمَاءَ يَتَجَافَى عَنْ الْأَعْضَاءِ فِي الشِّتَاءِ.

.أَرْكَانُ الْوُضُوءِ:

.مَطْلَبُ غَسْلِ الْوَجْهِ:

(وَأَمَّا) أَرْكَانُ الْوُضُوءِ فَأَرْبَعَةٌ:
(أَحَدُهَا): غَسْلُ الْوَجْهِ مَرَّةً وَاحِدَةً، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ}، وَالْأَمْرُ الْمُطْلَقُ لَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ حَدَّ الْوَجْهِ، وَذَكَرَ فِي غَيْرِ رِوَايَةِ الْأُصُولِ أَنَّهُ مِنْ قِصَاصِ الشَّعْرِ إلَى أَسْفَلِ الذَّقَنِ، وَإِلَى شَحْمَتَيْ الْأُذُنَيْنِ، وَهَذَا تَحْدِيدٌ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّهُ تَحْدِيدُ الشَّيْءِ بِمَا يُنْبِئُ عَنْهُ اللَّفْظُ لُغَةً؛ لِأَنَّ الْوَجْهَ اسْمٌ لِمَا يُوَاجِهُ الْإِنْسَانَ، أَوْ مَا يُوَاجَهُ إلَيْهِ فِي الْعَادَةِ، وَالْمُوَاجَهَةُ تَقَعُ بِهَذَا الْمَحْدُودِ، فَوَجَبَ غَسْلُهُ قَبْلَ نَبَاتِ الشَّعْرِ، فَإِذَا نَبَتَ الشَّعْرُ يَسْقُطُ غَسْلُ مَا تَحْتَهُ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَلْخِيّ: إنَّهُ لَا يَسْقُطُ غَسْلُهُ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إنْ كَانَ الشَّعْرُ كَثِيفًا يَسْقُطُ، وَإِنْ كَانَ خَفِيفًا لَا يَسْقُطُ.
وَجْهُ قَوْلِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ مَا تَحْتَ الشَّعْرِ بَقِيَ دَاخِلًا تَحْتَ الْحَدِّ بَعْدَ نَبَاتِ الشَّعْرِ، فَلَا يَسْقُطُ غَسْلُهُ وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ السُّقُوطَ لِمَكَانِ الْحَرَجِ،، وَالْحَرَجُ فِي الْكَثِيفِ لَا فِي الْخَفِيفِ.
(وَلَنَا) أَنَّ الْوَاجِبَ غَسْلُ الْوَجْهِ، وَلَمَّا نَبَتَ الشَّعْرُ خَرَجَ مَا تَحْتَهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ وَجْهًا، لِأَنَّهُ لَا يُوَاجَهُ إلَيْهِ، فَلَا يَجِبُ غُسْلُهُ، وَخَرَجَ الْجَوَابُ عَمَّا قَالَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ، وَعَمَّا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ أَيْضًا، لِأَنَّ السُّقُوطَ فِي الْكَثِيفِ لَيْسَ لِمَكَانِ الْحَرَجِ، بَلْ لِخُرُوجِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ وَجْهًا لِاسْتِتَارِهِ بِالشَّعْرِ، وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ فِي الْخَفِيفِ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ غَسْلُ مَا تَحْتَ الشَّارِبِ وَالْحَاجِبَيْنِ.
وَأَمَّا الشَّعْرُ الَّذِي يُلَاقِي الْخَدَّيْنِ، وَظَاهِرَ الذَّقَنِ، فَقَدْ رَوَى ابْنُ شُجَاعٍ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَزُفَرَ، أَنَّهُ إذَا مَسَحَ مِنْ لِحْيَتِهِ ثُلُثًا، أَوْ رُبُعًا جَازَ، وَإِنْ مَسَحَ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ إنْ لَمْ يَمْسَحْ شَيْئًا مِنْهَا جَازَ، وَهَذِهِ الرِّوَايَاتُ مَرْجُوعٌ عَنْهَا،، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَجِبُ غَسْلُهُ؛ لِأَنَّ الْبَشَرَةَ خَرَجَتْ مِنْ أَنْ تَكُونَ وَجْهًا، لِعَدَمِ مَعْنَى الْمُوَاجَهَةِ لِاسْتِتَارِهَا بِالشَّعْرِ، فَصَارَ ظَاهِرُ الشَّعْرِ الْمُلَاقِي لَهَا هُوَ الْوَجْهُ، لِأَنَّ الْمُوَاجَهَةَ تَقَعُ إلَيْهِ، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ أَبُو حَنِيفَةَ فَقَالَ: وَإِنَّمَا مَوَاضِعُ الْوُضُوءِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا، وَالظَّاهِرُ هُوَ الشَّعْرُ لَا الْبَشَرَةُ، فَيَجِبُ غَسْلُهُ، وَلَا يَجِبُ غَسْلُ مَا اسْتَرْسَلَ مِنْ اللِّحْيَةِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَجِبُ (لَهُ) أَنَّ الْمُسْتَرْسِلَ تَابِعٌ لِمَا اتَّصَلَ، وَالتَّبَعُ حُكْمُهُ حُكْمُ الْأَصْلِ.
وَ(لَنَا) أَنَّهُ إنَّمَا يُوَاجِهُ إلَى الْمُتَّصِلِ عَادَةً، لَا إلَى الْمُسْتَرْسِلِ، فَلَمْ يَكُنْ الْمُسْتَرْسِلُ وَجْهًا، فَلَا يَجِبُ غَسْلُهُ، وَيَجِبُ غَسْلُ الْبَيَاضِ الَّذِي بَيْنَ الْعِذَارِ وَالْأُذُنِ، فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٍ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَجِبُ لِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ مَا تَحْتَ الْعِذَارِ لَا يَجِبُ غَسْلُهُ مَعَ أَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى الْوَجْهِ، فَلَأَنْ لَا يَجِبَ غَسْلُ الْبَيَاضِ أَوْلَى، وَلَهُمَا أَنَّ الْبَيَاضَ دَاخِلٌ فِي حَدِّ الْوَجْهِ، وَلَمْ يُسْتَرْ بِالشَّعْرِ فَبَقِيَ وَاجِبَ الْغَسْلِ كَمَا كَانَ، بِخِلَافِ الْعِذَارِ.
وَإِدْخَالُ الْمَاءِ فِي دَاخِلِ الْعَيْنَيْنِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ؛ لِأَنَّ دَاخِلَ الْعَيْنِ لَيْسَ بِوَجْهٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يُوَاجَهُ إلَيْهِ؛ وَلِأَنَّ فِيهِ حَرَجًا، وَقِيلَ: إنَّ مَنْ تَكَلَّفَ لِذَلِكَ مِنْ الصَّحَابَةِ كُفَّ بَصَرُهُ، كَابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.

.مَطْلَبُ غَسْلِ الْيَدَيْنِ:

(وَالثَّانِي): غَسْلُ الْيَدَيْنِ مَرَّةً وَاحِدَةً لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَيْدِيَكُمْ} وَمُطْلَقُ الْأَمْرِ لَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ.
وَالْمِرْفَقَانِ يَدْخُلَانِ فِي الْغَسْلِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ، وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يَدْخُلَانِ، وَلَوْ قُطِعَتْ يَدُهُ مِنْ الْمِرْفَقِ، يَجِبُ عَلَيْهِ غَسْلُ مَوْضِعِ الْقَطْعِ عِنْدَنَا خِلَافًا لَهُ.
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ الْمِرْفَقَ غَايَةً، فَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ مَا جُعِلَتْ لَهُ الْغَايَةُ، كَمَا لَا يَدْخُلُ اللَّيْلُ تَحْتَ الْأَمْرِ بِالصَّوْمِ فِي قَوْله تَعَالَى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إلَى اللَّيْلِ}.
(وَلَنَا) أَنَّ الْأَمْرَ تَعَلَّقَ بِغَسْلِ الْيَدِ، وَالْيَدُ اسْمٌ لِهَذِهِ الْجَارِحَةِ مِنْ رُءُوسِ الْأَصَابِعِ إلَى الْإِبِطِ، وَلَوْلَا ذِكْرُ الْمِرْفَقِ لَوَجَبَ غَسْلُ الْيَدِ كُلِّهَا، فَكَانَ ذِكْرُ الْمِرْفَقِ لِإِسْقَاطِ الْحُكْمِ عَمَّا وَرَاءَهُ، لَا لِمَدِّ الْحُكْمِ إلَيْهِ، لِدُخُولِهِ تَحْتَ مُطْلَقِ اسْمِ الْيَدِ، فَيَكُونُ عَمَلًا بِاللَّفْظِ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمِرْفَقَ لَا يَصْلُحُ غَايَةً لِحُكْمٍ ثَبَتَ فِي الْيَدِ، لِكَوْنِهِ بَعْضَ الْيَدِ، بِخِلَافِ اللَّيْلِ فِي بَابِ الصَّوْمِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْلَا ذِكْرُ اللَّيْلُ لَمَا اقْتَضَى الْأَمْرُ إلَّا وُجُوبَ صَوْمِ سَاعَةٍ، فَكَانَ ذِكْرُ اللَّيْلِ لِمَدِّ الْحُكْمِ إلَيْهِ؛ عَلَى أَنَّ الْغَايَاتِ مُنْقَسِمَةٌ، مِنْهَا مَا لَا يَدْخُلُ تَحْتَ مَا ضُرِبَتْ لَهُ الْغَايَةُ، وَمِنْهَا مَا يَدْخُلُ، كَمَنْ قَالَ: رَأَيْتُ فُلَانًا مِنْ رَأْسِهِ إلَى قَدَمِهِ، وَأَكَلْتُ السَّمَكَةَ مِنْ رَأْسِهَا إلَى ذَنَبِهَا، دَخَلَ الْقَدَمُ، وَالذَّنَبُ، فَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْغَايَةُ مِنْ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ لَا يَجِبُ غَسْلُهُمَا، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ الْقِسْمِ الثَّانِي يَجِبُ، فَيُحْمَلُ عَلَى الثَّانِي احْتِيَاطًا، عَلَى أَنَّهُ إذَا احْتَمَلَ دُخُولَ الْمَرَافِقِ فِي الْأَمْرِ بِالْغَسْلِ، وَاحْتَمَلَ خُرُوجَهَا عَنْهُ صَارَ مُجْمَلًا مُفْتَقِرًا إلَى الْبَيَانِ.
وَقَدْ رَوَى جَابِرٌ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «كَانَ إذَا بَلَغَ الْمِرْفَقَيْنِ فِي الْوُضُوءِ أَدَارَ الْمَاءَ عَلَيْهِمَا» فَكَانَ فِعْلُهُ بَيَانًا لِمُجْمَلِ الْكِتَابِ، وَالْمُجْمَلُ إذَا الْتَحَقَ بِهِ الْبَيَانُ يَصِيرُ مُفَسَّرًا مِنْ الْأَصْلِ.

.مَطْلَبُ مَسْحِ الرَّأْسِ:

(وَالثَّالِثُ): مَسْحُ الرَّأْسِ مَرَّةً وَاحِدَةً لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} وَالْأَمْرُ الْمُطْلَقُ بِالْفِعْلِ لَا يُوجِبُ التَّكْرَارَ،، وَاخْتُلِفَ فِي الْمِقْدَارِ الْمَفْرُوضِ مَسْحُهُ، ذَكَرَهُ فِي الْأَصْلِ، وَقَدَّرَهُ بِثَلَاثِ أَصَابِعِ الْيَدِ، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَدَّرَهُ بِالرُّبْعِ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ وَالطَّحَاوِيُّ عَنْ أَصْحَابِنَا مِقْدَارَ النَّاصِيَةِ.
وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَجُوزُ حَتَّى يَمْسَحَ جَمِيعَ الرَّأْسِ، أَوْ أَكَثْرَهُ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إذَا مَسَحَ مَا يُسَمَّى مَسْحًا يَجُوزُ، وَإِنْ كَانَ ثَلَاثَ شَعَرَاتٍ.
وَجْهُ قَوْلِ مَالِكٍ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ الرَّأْسَ، وَالرَّأْسُ اسْمٌ لِلْجُمْلَةِ، فَيَقْتَضِي وُجُوبَ مَسْحِ جَمِيعِ الرَّأْسِ، وَحَرْفُ الْبَاءِ لَا يَقْتَضِي التَّبْعِيضَ لُغَةً، بَلْ هُوَ حَرْفُ إلْصَاقٍ، فَيَقْتَضِي إلْصَاقَ الْفِعْلِ بِالْمَفْعُولِ، وَهُوَ الْمَسْحُ بِالرَّأْسِ، وَالرَّأْسُ اسْمٌ لِكُلِّهِ، فَيَجِبُ مَسْحُ كُلِّهِ، إلَّا أَنَّهُ إذَا مَسَحَ الْأَكْثَرَ جَازَ لِقِيَامِ الْأَكْثَرِ مَقَامَ الْكُلِّ.
وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْأَمْرَ تَعَلَّقَ بِالْمَسْحِ بِالرَّأْسِ، وَالْمَسْحُ بِالشَّيْءِ لَا يَقْتَضِي اسْتِيعَابَهُ فِي الْعُرْفِ، يُقَالُ: (مَسَحْتُ يَدِي بِالْمِنْدِيلِ)، وَإِنْ لَمْ يَمْسَحْ بِكُلِّهِ، وَيُقَالُ: كَتَبْتُ بِالْقَلَمِ، وَضَرَبْتُ بِالسَّيْفِ، وَإِنْ لَمْ يَكْتُبْ بِكُلِّ الْقَلَمِ، وَلَمْ يَضْرِبْ بِكُلِّ السَّيْفِ، فَيَتَنَاوَلُ أَدْنَى مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ الِاسْمُ.
(وَلَنَا) أَنَّ الْأَمْرَ بِالْمَسْحِ يَقْتَضِي آلَةً، إذْ الْمَسْحُ لَا يَكُونُ إلَّا بِآلَةٍ، وَآلَةُ الْمَسْحِ هِيَ أَصَابِعُ الْيَدِ عَادَةً، وَثَلَاثُ أَصَابِعِ الْيَدِ أَكْثَرُ الْأَصَابِعِ، وَلِلْأَكْثَرِ حُكْمُ الْكُلِّ، فَصَارَ كَأَنَّهُ نَصَّ عَلَى الثَّلَاثِ وَقَالَ: وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ بِثَلَاثِ أَصَابِعِ أَيْدِيكُمْ.
وَأَمَّا وَجْهُ التَّقْدِيرِ بِالنَّاصِيَةِ فَلِأَنَّ مَسْحَ جَمِيعِ الرَّأْسِ لَيْسَ بِمُرَادٍ مِنْ الْآيَةِ بِالْإِجْمَاعِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ عِنْدَ مَالِكٍ أَنَّ مَسْحَ جَمِيعِ الرَّأْسِ إلَّا قَلِيلًا مِنْهُ جَائِزٌ، فَلَا يُمْكِنُ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى جَمِيعِ الرَّأْسِ، وَلَا عَلَى بَعْضٍ مُطْلَقٍ، وَهُوَ أَدْنَى مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ الِاسْمُ كَمَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ، لِأَنَّ مَاسِحَ شَعْرَةٍ، أَوْ ثَلَاثِ شَعَرَاتٍ لَا يُسَمَّى مَاسِحًا فِي الْعُرْفِ، فلابد مِنْ الْحَمْلِ عَلَى مِقْدَارٍ يُسَمَّى الْمَسْحُ عَلَيْهِ مَسْحًا فِي الْمُتَعَارَفِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَعْلُومٍ.
وَقَدْ رَوَى الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَنَّهُ بَالَ، وَتَوَضَّأَ، وَمَسَحَ عَلَى نَاصِيَتِهِ» فَصَارَ فِعْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بَيَانًا لِمُجْمَلِ الْكِتَابِ، إذْ الْبَيَانُ يَكُونُ بِالْقَوْلِ تَارَةً، وَبِالْفِعْلِ أُخْرَى، كَفِعْلِهِ فِي هَيْئَةِ الصَّلَاةِ، وَعَدَدِ رَكَعَاتِهَا، وَفِعْلِهِ فِي مَنَاسِكِ الْحَجِّ، وَغَيْرِ ذَلِكَ.
فَكَانَ الْمُرَادُ مِنْ الْمَسْحِ بِالرَّأْسِ مِقْدَارَ النَّاصِيَةِ بِبَيَانِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوَجْهُ التَّقْدِيرِ بِالرُّبْعِ أَنَّهُ قَدْ ظَهَرَ اعْتِبَارُ الرُّبْعِ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَحْكَامِ، كَمَا فِي حَلْقِ رُبْعِ الرَّأْسِ أَنَّهُ يَحِلُّ بِهِ الْمُحْرِمُ، وَلَا يَحِلُّ بِدُونِهِ، وَيَجِبُ الدَّمُ إذَا فَعَلَهُ فِي إحْرَامِهِ، وَلَا يَجِبُ بِدُونِهِ، وَكَمَا فِي انْكِشَافِ الرُّبْعِ مِنْ الْعَوْرَةِ فِي بَابِ الصَّلَاةِ أَنَّهُ يَمْنَعُ جَوَازَ الصَّلَاةِ، وَمَا دُونَهُ لَا يَمْنَعُ، كَذَا هَاهُنَا، وَلَوْ وَضَعَ ثَلَاثَ أَصَابِعَ وَضْعًا، وَلَمْ يَمُدَّهَا جَازَ عَلَى قِيَاسِ رِوَايَةِ الْأَصْلِ، وَهِيَ التَّقْدِيرُ بِثَلَاثِ أَصَابِعَ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِالْقَدْرِ الْمَفْرُوضِ، وَعَلَى قِيَاسِ رِوَايَةِ النَّاصِيَةِ: وَالرُّبْعُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ مَا اسْتَوْفَى ذَلِكَ الْقَدْرَ.
وَلَوْ مَسَحَ بِثَلَاثِ أَصَابِعَ مَنْصُوبَةٍ غَيْرِ مَوْضُوعَةٍ وَلَا مَمْدُودَةٍ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِالْقَدْرِ الْمَفْرُوضِ، وَلَوْ مَدَّهَا حَتَّى بَلَغَ الْقَدْرَ الْمَفْرُوضَ لَمْ يَجُزْ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وَعِنْدَ زُفَرَ يَجُوزُ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا مَسَحَ بِأُصْبُعٍ، أَوْ بِأُصْبُعَيْنِ، وَمَدَّهُمَا حَتَّى بَلَغَ مِقْدَارَ الْفَرْضِ.
وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ إنَّ الْمَاءَ لَا يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا حَالَةَ الْمَسْحِ كَمَا لَا يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا حَالَةَ الْغَسْلِ، فَإِذَا مَدَّ فَقَدْ مَسَحَ بِمَاءٍ غَيْرِ مُسْتَعْمَلٍ، فَجَازَ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ سُنَّةَ الِاسْتِيعَابِ تَحْصُلُ بِالْمَدِّ، وَلَوْ كَانَ مُسْتَعْمَلًا بِالْمَدِّ لَمَا حَصَلَتْ، لِأَنَّهَا لَا تَحْصُلُ بِالْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ.
(وَلَنَا) أَنَّ الْأَصْلَ أَنْ يَصِيرَ الْمَاءُ مُسْتَعْمَلًا بِأَوَّلِ مُلَاقَاتِهِ الْعُضْوَ، لِوُجُودِ زَوَالِ الْحَدَثِ، أَوْ قَصْدِ الْقُرْبَةِ، إلَّا أَنَّ فِي بَابِ الْغَسْلِ لَمْ يَظْهَرْ حُكْمُ الِاسْتِعْمَالِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ لِلضَّرُورَةِ، وَهِيَ أَنَّهُ لَوْ أَعْطَى لَهُ حُكْمَ الِاسْتِعْمَالِ لَاحْتَاجَ إلَى أَنْ يَأْخُذَ لِكُلِّ جُزْءٍ مِنْ الْعُضْوِ مَاءً جَدِيدًا، وَفِيهِ مِنْ الْحَرَجِ مَا لَا يَخْفَى، فَلَمْ يَظْهَرْ حُكْمُ الِاسْتِعْمَالِ لِهَذِهِ الضَّرُورَةِ، وَلَا ضَرُورَةَ فِي الْمَسْحِ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنْ يَمْسَحَ دَفْعَةً وَاحِدَةً، فَلَا ضَرُورَةَ إلَى الْمَدِّ لِإِقَامَةِ الْفَرْضِ، فَظَهَرَ حُكْمُ الِاسْتِعْمَالِ فِيهِ، وَبِهِ حَاجَةٌ إلَى إقَامَةِ سُنَّةِ الِاسْتِيعَابِ، فَلَمْ يَظْهَرْ حُكْمُ الِاسْتِعْمَالِ فِيهِ كَمَا فِي الْغَسْلِ.
وَلَوْ مَسَحَ بِأُصْبُعٍ وَاحِدَةٍ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَأَعَادَهَا إلَى الْمَاءِ فِي كُلِّ مَرَّةٍ جَازَ، هَكَذَا رَوَى ابْنُ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي النَّوَادِرِ؛ لِأَنَّ الْمَفْرُوضَ هُوَ الْمَسْحُ قَدْرَ ثَلَاثِ أَصَابِعَ.
وَقَدْ وُجِدَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِثَلَاثِ أَصَابِعَ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَصَابَ رَأْسَهُ هَذَا الْقَدْرُ مِنْ مَاءِ الْمَطَرِ سَقَطَ عَنْهُ فَرْضُ الْمَسْحِ، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ فِعْلُ الْمَسْحِ رَأْسًا، وَلَوْ مَسَحَ بِأُصْبُعٍ وَاحِدَةٍ بِبَطْنِهَا، وَبِظَهْرِهَا، وَبِجَانِبِهَا لَمْ يُذْكَرْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَجُوزُ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَجُوزُ، وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ فِي مَعْنَى الْمَسْحِ بِثَلَاثِ أَصَابِعَ، وَإِيصَالُ الْمَاءِ إلَى أُصُولِ الشَّعْرِ لَيْسَ بِفَرْضٍ؛ لِأَنَّ فِيهِ حَرَجًا فَأُقِيمَ الْمَسْحُ عَلَى الشَّعْرِ مَقَامَ الْمَسْحِ عَلَى أُصُولِهِ، وَلَوْ مَسَحَ عَلَى شَعْرِهِ وَكَانَ شَعْرُهُ طَوِيلًا فَإِنْ مَسَحَ عَلَى مَا تَحْتَ أُذُنِهِ لَمْ يَجُزْ، وَإِنْ مَسَحَ عَلَى مَا فَوْقَهَا جَازَ، لِأَنَّ الْمَسْحَ عَلَى الشَّعْرِ كَالْمَسْحِ عَلَى مَا تَحْتَهُ، وَمَا تَحْتَ الْأُذُنِ عُنُقٌ، وَمَا فَوْقَهُ رَأْسٌ.
وَلَا يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَى الْعِمَامَةِ، وَالْقَلَنْسُوَةِ، لِأَنَّهُمَا يَمْنَعَانِ إصَابَةَ الْمَاءِ الشَّعْرَ، وَلَا يَجُوزُ مَسْحُ الْمَرْأَةِ عَلَى خِمَارِهَا، لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا أَدْخَلَتْ يَدَهَا تَحْتَ الْخِمَارِ، وَمَسَحَتْ بِرَأْسِهَا وَقَالَتْ: بِهَذَا أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا إذَا كَانَ الْخِمَارُ رَقِيقًا يُنْفِذُ الْمَاءَ إلَى شَعْرِهَا، فَيَجُوزُ لِوُجُودِ الْإِصَابَةِ.
وَلَوْ أَصَابَ رَأْسَهُ الْمَطَرُ مِقْدَارَ الْمَفْرُوضِ أَجْزَأَهُ مَسَحَهُ بِيَدِهِ أَوْ لَمْ يَمْسَحْهُ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ لَيْسَ بِمَقْصُودٍ فِي الْمَسْحِ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ هُوَ وُصُولُ الْمَاءِ إلَى ظَاهِرِ الشَّعْرِ، وَقَدْ وُجِدَ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ.

.مَطْلَبُ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ:

(وَالرَّابِعُ) غَسْلُ الرِّجْلَيْنِ مَرَّةً وَاحِدَةً، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَرْجُلَكُمْ إلَى الْكَعْبَيْنِ} بِنَصْبِ اللَّامِ مِنْ الْأَرْجُلِ مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إلَى الْمَرَافِقِ} كَأَنَّهُ قَالَ: فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ، وَأَيْدِيَكُمْ إلَى الْمَرَافِقِ، وَأَرْجُلَكُمْ إلَى الْكَعْبَيْنِ، وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ.
وَالْأَمْرُ الْمُطْلَقُ لَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ، وَقَالَتْ الرَّافِضَةُ الْفَرْضُ هُوَ الْمَسْحُ لَا غَيْرُ وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ بِالتَّخْيِيرِ بَيْنَ الْمَسْحِ، وَالْغَسْلِ وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ بِالْجَمْعِ بَيْنَهُمَا وَأَصْلُ هَذَا الِاخْتِلَافِ أَنَّ الْآيَةَ قُرِئَتْ بِقِرَاءَتَيْنِ، بِالنَّصْبِ، وَالْخَفْضِ فَمَنْ قَالَ بِالْمَسْحِ أَخَذَ بِقِرَاءَةِ الْخَفْضِ، فَإِنَّهَا تَقْتَضِي كَوْنَ الْأَرْجُلِ مَمْسُوحَةً لَا مَغْسُولَةً؛ لِأَنَّهَا تَكُونُ مَعْطُوفَةً عَلَى الرَّأْسِ، وَالْمَعْطُوفُ يُشَارِكُ الْمَعْطُوفَ عَلَيْهِ فِي الْحُكْمِ، ثُمَّ وَظِيفَةُ الرَّأْسِ الْمَسْحُ، فَكَذَا وَظِيفَةُ الرِّجْلِ، وَمِصْدَاقُ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ أَنَّهُ اجْتَمَعَ فِي الْكَلَامِ عَامِلَانِ، أَحَدُهُمَا: قَوْلُهُ: {فَاغْسِلُوا} وَالثَّانِي: حَرْفُ الْجَرِّ، وَهُوَ الْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: {بِرُءُوسِكُمْ}، وَالْبَاءُ أَقْرَبُ فَكَانَ الْخَفْضُ أَوْلَى، وَمَنْ قَالَ بِالتَّخْيِيرِ يَقُولُ: إنَّ الْقِرَاءَتَيْنِ قَدْ ثَبَتَ كَوْنُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا قُرْآنًا، وَتَعَذَّرَ الْجَمْعُ بَيْنَ مُوجِبَيْهِمَا، وَهُوَ وُجُوبُ الْمَسْحِ، وَالْغَسْلِ، إذْ لَا قَائِلَ بِهِ فِي السَّلَفِ، فَيُخَيَّرُ الْمُكَلَّفُ، إنْ شَاءَ عَمِلَ بِقِرَاءَةِ النَّصْبِ فَغَسَلَ، وَإِنْ شَاءَ بِقِرَاءَةِ الْخَفْضِ فَمَسَحَ، وَأَيُّهُمَا فَعَلَ يَكُونُ إتْيَانًا بِالْمَفْرُوضِ، كَمَا فِي الْأَمْرِ بِأَحَدِ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ، وَمَنْ قَالَ بِالْجَمْعِ يَقُولُ: الْقِرَاءَتَانِ فِي آيَةٍ وَاحِدَةٍ بِمَنْزِلَةِ آيَتَيْنِ فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِهِمَا جَمِيعًا مَا أَمْكَنَ، وَأَمْكَنَ هاهنا لِعَدَمِ التَّنَافِي، إذْ لَا تَنَافِيَ بَيْنَ الْغَسْلِ، وَالْمَسْحِ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ فَيَجِبُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا.
(وَلَنَا) قِرَاءَةُ النَّصْبِ، وَأَنَّهَا تَقْتَضِي كَوْنَ، وَظِيفَةِ الْأَرْجُلِ الْغَسْلَ، لِأَنَّهَا تَكُونُ مَعْطُوفَةً عَلَى الْمَغْسُولَاتِ، وَهِيَ الْوَجْهُ، وَالْيَدَانِ، وَالْمَعْطُوفُ عَلَى الْمَغْسُولِ يَكُونُ مَغْسُولًا تَحْقِيقًا لِمُقْتَضَى الْعَطْفِ، وَحُجَّةُ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ وُجُوهٌ:.
أَحَدُهَا: مَا قَالَهُ بَعْضُ مَشَايِخِنَا أَنَّ قِرَاءَةَ النَّصْبِ مُحْكَمَةٌ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى كَوْنِ الْأَرْجُلِ مَعْطُوفَةً عَلَى الْمَغْسُولَاتِ، وَقِرَاءَةُ الْخَفْضِ مُحْتَمَلَةٌ؛ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهَا مَعْطُوفَةٌ عَلَى الرُّءُوسِ حَقِيقَةً، وَمَحَلُّهَا مِنْ الْإِعْرَابِ الْخَفْضُ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهَا مَعْطُوفَةٌ عَلَى الْوَجْهِ، وَالْيَدَيْنِ حَقِيقَةً، وَمَحَلُّهَا مِنْ الْإِعْرَابِ النَّصْبُ، إلَّا أَنَّ خَفْضَهَا لِلْمُجَاوَرَةِ، وَإِعْطَاءُ الْإِعْرَابِ بِالْمُجَاوَرَةِ طَرِيقَةٌ شَائِعَةٌ فِي اللُّغَةِ بِغَيْرِ حَائِلٍ، وَبِحَائِلٍ، أَمَّا بِغَيْرِ الْحَائِلِ فَكَقَوْلِهِمْ: جُحْرُ ضَبٍّ خَرِبٍ وَمَاءُ شَنٍّ بَارِدٍ، وَالْخَرِبُ نَعْتُ الْجُحْرِ لَا نَعْتُ الضَّبِّ، وَالْبُرُودَةُ نَعْتُ الْمَاءِ لَا نَعْتُ الشَّنِّ، ثُمَّ خُفِضَ لِمَكَانِ الْمُجَاوَرَةِ.
وَأَمَّا مَعَ الْحَائِلِ، فَكَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ} إلَى قَوْلِهِ: {وَحُورٌ عِينٌ} لِأَنَّهُنَّ لَا يُطَافُ بِهِنَّ، وَكَمَا قَالَ الْفَرَزْدَقُ: فَهَلْ أَنْتَ إنْ مَاتَتْ أَتَانُكَ رَاكِبٌ إلَى آلِ بِسْطَامٍ بْنِ قَيْسٍ فَخَاطِبُ فَثَبَتَ أَنَّ قِرَاءَةَ الْخَفْضِ مُحْتَمَلَةٌ، وَقِرَاءَةَ النَّصْبِ مُحْكَمَةٌ، فَكَانَ الْعَمَلُ بِقِرَاءَةِ النَّصْبِ أَوْلَى إلَّا أَنَّ فِي هَذَا إشْكَالًا، وَهُوَ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ فِي حَدِّ التَّعَارُضِ لِأَنَّ قِرَاءَةَ النَّصْبِ مُحْتَمَلَةٌ أَيْضًا فِي الدَّلَالَةِ عَلَى كَوْنِ الْأَرْجُلِ مَعْطُوفَةً عَلَى الْيَدَيْنِ، وَالرِّجْلَيْنِ، لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهَا مَعْطُوفَةٌ عَلَى الرَّأْسِ.
وَالْمُرَادُ بِهَا الْمَسْحُ حَقِيقَةً، لَكِنَّهَا نُصِبَتْ عَلَى الْمَعْنَى لَا عَلَى اللَّفْظِ، لِأَنَّ الْمَمْسُوحَ بِهِ مَفْعُولٌ بِهِ، فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ تَعَالَى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ}.
وَالْإِعْرَابُ قَدْ يَتْبَعُ اللَّفْظَ، وَقَدْ يَتْبَعُ الْمَعْنَى، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: مُعَاوِيَةَ إنَّنَا بَشَرٌ فَأَسْجِحْ فَلَسْنَا بِالْجِبَالِ وَلَا الْحَدِيدَا نَصَبَ الْحَدِيدَ عَطْفًا عَلَى الْجِبَالِ بِالْمَعْنَى لَا بِاللَّفْظِ، مَعْنَاهُ فَلَسْنَا الْجِبَالَ، وَلَا الْحَدِيدَ، فَكَانَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْقِرَاءَتَيْنِ مُحْتَمَلَةً فِي الدَّلَالَةِ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا، فَوَقَعَ التَّعَارُضُ فَيُطْلَبُ التَّرْجِيحُ مِنْ جَانِبٍ آخَرَ، وَذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَدَّ الْحُكْمَ فِي الْأَرْجُلِ إلَى الْكَعْبَيْنِ، وَوُجُوبُ الْمَسْحِ لَا يَمْتَدُّ إلَيْهِمَا.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْغَسْلَ يَتَضَمَّنُ الْمَسْحَ، إذْ الْغَسْلُ إسَالَةٌ، وَالْمَسْحُ إصَابَةٌ، وَفِي الْإِسَالَةِ إصَابَةٌ، وَزِيَادَةٌ، فَكَانَ مَا قُلْنَاهُ عَمَلًا بِالْقِرَاءَتَيْنِ مَعًا، فَكَانَ أَوْلَى.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ قَدْ رَوَى جَابِرٌ،، وَأَبُو هُرَيْرَةَ،، وَعَائِشَةُ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وَغَيْرُهُمْ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى قَوْمًا تَلُوحُ أَعْقَابُهُمْ لَمْ يُصِبْهَا الْمَاءُ فَقَالَ: وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنْ النَّارِ، أَسْبِغُوا الْوُضُوءَ».
وَرُوِيَ: «أَنَّهُ تَوَضَّأَ مَرَّةً، وَغَسَلَ رِجْلَيْهِ وَقَالَ: هَذَا وُضُوءٌ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ الصَّلَاةَ إلَّا بِهِ» وَمَعْلُومٌ أَنَّ قَوْلَهُ: «وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنْ النَّارِ» وَعِيدٌ لَا يُسْتَحَقُّ إلَّا بِتَرْكِ الْمَفْرُوضِ، وَكَذَا نَفْيُ قَبُولِ صَلَاةِ مَنْ لَا يَغْسِلُ رِجْلَيْهِ فِي وُضُوئِهِ، فَدَلَّ أَنَّ غَسْلَ الرِّجْلَيْنِ مِنْ فَرَائِضِ الْوُضُوءِ.
وَقَدْ ثَبَتَ بِالتَّوَاتُرِ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَسَلَ رِجْلَيْهِ فِي الْوُضُوءِ»، لَا يَجْحَدُهُ مُسْلِمٌ، فَكَانَ قَوْلُهُ، وَفِعْلُهُ بَيَانُ الْمُرَادِ بِالْآيَةِ، فَثَبَتَ بِالدَّلَائِلِ الْمُتَّصِلَةِ، وَالْمُنْفَصِلَةِ أَنَّ الْأَرْجُلَ فِي الْآيَةِ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الْمَغْسُولِ لَا عَلَى الْمَمْسُوحِ، فَكَانَ وَظِيفَتُهَا الْغَسْلَ لَا الْمَسْحَ، عَلَى أَنَّهُ إنْ وَقَعَ التَّعَارُضُ بَيْنَ الْقِرَاءَتَيْنِ فَالْحُكْمُ فِي تَعَارُضِ الْقِرَاءَتَيْنِ كَالْحُكْمِ فِي تَعَارُضِ الْآيَتَيْنِ، وَهُوَ أَنَّهُ إنْ أَمْكَنَ الْعَمَلُ بِهِمَا مُطْلَقًا يُعْمَلُ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ لِلتَّنَافِي يُعْمَلُ بِهِمَا بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ، وَهَاهُنَا لَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْغَسْلِ، وَالْمَسْحِ فِي عُضْوٍ وَاحِدٍ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ، وَلِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى تَكْرَارِ الْمَسْحِ، لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْغَسْلَ يَتَضَمَّنُ الْمَسْحَ، وَالْأَمْرُ الْمُطْلَقُ لَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ، فَيُعْمَلُ بِهِمَا فِي الْحَالَتَيْنِ، فَتُحْمَلُ قِرَاءَةُ النَّصْبِ عَلَى مَا إذَا كَانَتْ الرِّجْلَانِ بَادِيَتَيْنِ، وَتُحْمَلُ قِرَاءَةُ الْخَفْضِ عَلَى مَا إذَا كَانَتَا مَسْتُورَتَيْنِ بِالْخُفَّيْنِ تَوْفِيقًا بَيْنَ الْقِرَاءَتَيْنِ، وَعَمَلًا بِهِمَا بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْقَوْلَ بِالتَّخْيِيرِ بَاطِلٌ عِنْدَ إمْكَانِ الْعَمَلِ بِهِمَا فِي الْجُمْلَةِ.
وَعِنْدَ عَدَمِ الْإِمْكَانِ أَصْلًا، وَرَأْسًا لَا يُخَيَّرُ أَيْضًا، بَلْ يَتَوَقَّفُ عَلَى مَا عُرِفَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، ثُمَّ الْكَعْبَانِ يَدْخُلَانِ فِي الْغَسْلِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يَدْخُلَانِ، وَالْكَلَامُ فِي الْكَعْبَيْنِ عَلَى نَحْوِ الْكَلَامِ فِي الْمِرْفَقَيْنِ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ.
، وَالْكَعْبَانِ هُمَا الْعَظْمَانِ النَّاتِئَانِ فِي أَسْفَلِ السَّاقِ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ الْأَصْحَابِ، كَذَا ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ لِأَنَّ الْكَعْبَ فِي اللُّغَةِ اسْمٌ لِمَا عَلَا وَارْتَفَعَ، وَمِنْهُ سُمِّيَتْ الْكَعْبَةُ كَعْبَةً، وَأَصْلُهُ مِنْ كَعْبِ الْقَنَاةِ، وَهُوَ أُنْبُوبُهَا سُمِّيَ بِهِ لِارْتِفَاعِهِ.
وَتُسَمَّى الْجَارِيَةُ النَّاهِدَةُ الثَّدْيَيْنِ كَاعِبًا لِارْتِفَاعِ ثَدْيَيْهَا، وَكَذَا فِي الْعُرْفِ يُفْهَمُ مِنْهُ النَّاتِئُ، يُقَالُ ضَرَبَ كَعْبَ فُلَانٍ، وَفِي الْخَبَرِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ فِي تَسْوِيَةِ الصُّفُوفِ فِي الصَّلَاةِ: «أَلْصِقُوا الْكِعَابَ بِالْكِعَابِ» وَلَمْ يَتَحَقَّقْ مَعْنَى الْإِلْصَاقِ إلَّا فِي النَّاتِئِ، وَمَا رَوَى هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ الْمِفْصَلُ الَّذِي عِنْدَ مَعْقِدِ الشِّرَاكِ عَلَى ظَهْرِ الْقَدَمِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ، إنَّمَا قَالَ مُحَمَّدٌ فِي مَسْأَلَةِ الْمُحْرِمِ إذَا لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ، أَنَّهُ يَقْطَعُ الْخُفَّ أَسْفَلَ الْكَعْبِ، فَقَالَ: إنَّ الْكَعْبَ هاهنا الَّذِي فِي مِفْصَلِ الْقَدَمِ فَنَقَلَ هِشَامٌ ذَلِكَ إلَى الطَّهَارَةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا مِنْ وُجُوبِ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ إذَا كَانَتَا بَادِيَتَيْنِ لَا عُذْرَ بِهِمَا، فَأَمَّا إذَا كَانَتَا مَسْتُورَتَيْنِ بِالْخُفِّ، أَوْ كَانَ بِهِمَا عُذْرٌ مِنْ كَسْرٍ، أَوْ جُرْحٍ، أَوْ قُرْحٍ، فَوَظِيفَتُهُمَا الْمَسْحُ، فَيَقَعُ الْكَلَامُ فِي الْأَصْلِ فِي مَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا: فِي الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ.
وَالثَّانِي: فِي الْمَسْحِ عَلَى الْجَبَائِرِ.